الاقتصاد الفلسطيني في ضوء اتفاق أوسلو وملحقه الاقتصادي
تم النشربتاريخ : 2013-10-23
لكاتب: د. سمير مصطفى أبو مدلله
احتلال إسرائيل عام 1967 لما تبقى من أراضي فلسطين التاريخية "الضفة الغربية وقطاع غزة"، وقيام الكونيالية التوسعية الإسرائيلية أدى لإلحاق مكونات الاقتصاد الفلسطيني بقطاعاته المنتجة وغير المنتجة بعجلة الاقتصاد الإسرائيلي.
هذا وقد شكل اتفاق أوسلو عام 1993 خطوة كبيرة إلى الوراء مقارنة بأهداف وطموحات الشعب الفلسطيني للوصول إلى حقوقه الوطنية الغير قابلة للتصرف في العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة المستقلة استناداً لقرارات الشرعية الدولية. فبروتوكول باريس ثمرة لاتفاق أوسلو السياسي والأمني ويشكل الملحق الاقتصادي للاتفاق، ناظم للعلاقات الاقتصادية الفلسطينية الإسرائيلية وكرس الهيمنة الاقتصادية للطرف الإسرائيلي. ففي الوقت الذي منح فيه صلاحيات للطرف الفلسطيني تتعلق بالضرائب المباشرة والإشراف على البنوك إلا أنه قيّد صلاحيات السلطة الفلسطينية في إمكانية إصدار النقد وهي المهمة الرئيسية لأي سلطة نقد، كما فرض قيود على الواردات وحرية مقيدة في مجال الصادرات وحركة الأيدي العاملة وفرض أسعار تقارب نظيرتها الإسرائيلية.
منذ تأسيس السلطة الفلسطينية في عام 1994 ، وفق نصوص اتفاق أوسلو الذي وقع بين منظمة التحرير والحكومة الإسرائيلية لا تزال جدلية العلاقة بين السياسية والاقتصاد حاضرة بقوة في المشهد الفلسطيني. فبالرغم من أن هذه الاتفاقية منحت السلطة الوليدة صلاحيات مدنية كاملة في المناطــق (أ ، ب ) إلا أنها سلبت منها قدرا كبيرا من السيادة على المعابر وعلى الأراضي في منطقة (ج ) وعلى معظم الموارد والمياه والفضاء.
فمن أبرز ملامح برتوكول باريس الاقتصادي، أنه ربط الاقتصاد الفلسطيني مع الاقتصاد الإسرائيلي بغلاف جمركي واحد وبالتالي سلب السلطة الفلسطينية القدرة على التحكم بمعدلات الضريبة المضافة والرسوم الجمركية لمعظم السلع والخدمات وبالتالي قارب بين مستويات أسعارها بالسوقين بالرغم من التفاوت والتباين بين مستويات الأجور والدخول، حيث بلغ الناتج المحلي الفلسطيني 6.797 مليار دولار ، مقارنة بـ 275 مليار دولار لإسرائيل، أما معدل دخل الفرد فقد وصل إلى مستوى 1679 دولار في الأراضي الفلسطينية، علما أن معدل دخل الفرد في قطاع غزة أقل بـ 40% عن مستواه في الضفة الغربية مقارنة بـ 35 ألف دولار في إسرائيل ، وذلك للعام 2012 .
كذلك وظيفة جباية الجمارك والقيمة المضافة على المستوردات للفلسطينيين بقيت بيد إسرائيل التي أخضعت تحويلاتها لخزينة السلطة لاعتبارات أمنية وسياسية، علما بأن إيرادات المقاصة ساهمت بحوالي 69% من الإيرادات المحلية وساهمت بتغطية 52% من النفقات الجارية للعام 2012 وهذا ما جعل الجانب الإسرائيلي يتخذها وسيلة ضغط وابتزاز للسلطة الفلسطينية. أما إصدار عملة وطنية فهو مشروط بموافقة إسرائيل مما يعني حرمان سلطة النقد من استخدام معظم أدوات السياسة النقدية الضرورية لتوجيه الاقتصاد.
أيضا بموجب برتوكول باريس تتحكم إسرائيل بمنسوب تدفق العمالة الفلسطينية إليها بما يخدم مصالحها الاقتصادية، واعتباراتها الأمنية، حيث منعت إسرائيل ما يقارب 120 ألف عامل كانوا يعملون لديها منذ انتفاضة الأقصى ، حيث مارست إسرائيل عقوبات جماعية بحقهم ومنعت العاملين من قطاع غزة. وفي العام 2012 بلغ مجموع العاملين في إسرائيل حوالي 83 ألف يشكلون نسبة 9.6 % من إجمالي العاملين البالغ عددهم 858 ألف عامل ، أما البطالة فقد بلغت 23% من إجمالي القوى العاملة موزعة 19% في الضفة الغربية و 31% في قطاع غزة لنفس الفترة، أما البطالة في صفوف الشباب فقد وصلت إلى 35% لنفس العام.
وأعطى بروتوكول باريس أيضاً صلاحيات لإسرائيل للتدخل والتحكم في طبيعة المشاريع وتمويلها.
ورغم أن اتفاق باريس جاء في سياق عملية تسوية وأنه افترض وجود طرفين متساويين في الإمكانيات والقدرات التفاوضية ورغم ذلك استمرت إسرائيل في التعامل بمنهجية مضادة لم تتأثر بأجواء التسوية السلمية ، بل تعاملت بمنهجية الاستعمار والحصار للسلطة والإغلاق للمعابر ، والحواجز ، وحجز إيرادات المقاصة، وبناء جدار الفصل العنصري. والعدوان المتكرر وما يترتب عليه من تدمير للبنية الاقتصادية والتحتية ، وتعطيل تنفيذ بنود باريس والالتفاف عليه وتفريغه من محتواه للمصلحة الإسرائيلية.
واللافت ان إسرائيل واصلت حالة التبعية وتم مأسسة ذلك بآليات جديدة أفضت إلى ضعف السلطة على صياغة سياسيات تنموية فاعلة وملائمة لانجاز الأهداف التنموية، وبالتالي تعزز الضعف الاقتصادي والارتهان السياسي وأصبح الاختلال والتشوه في البنى والقطاعات الاقتصادية أكثر حدة وعمقا ، وانعكس ذلك على سوق العمل وانعكس على الفجوة بين الطلب والعرض ، مما أدى إلى ارتفاع معدلات البطالة والفقر وتآكل الأجور وتدني الإنتاجية.
إن اتفاق باريس قد ولد اقتصاداً فلسطينياً أكثر اعتماداً على المساعدات في ظل العجز المتزايد للموازنة والميزان التجاري، وضعف القطاع الخاص على الاستثمار، فقد ارتفع عجز الموازنة بنسبة 9.9% خلال العام 2012 مقارنة بعام 2011، وارتفع إجمالي الدين العام الحكومي نهاية العام 2012 ، بنحو 12% مقارنة بالعام 2011 ليبلغ 2482 مليون دولار ، واعتمدت الموازنة على المساعدات الخارجية حيث غطت حوالي 83% من العجز الجاري نهاية 2011، أما العجز في الميزان التجاري ، فقد بلغت الصادرات السلعية 3539.9 مليون دولار مقارنة بالواردات التي بلغت 706.5 مليون دولار للعام 2012 ، حيث شكلت حصة الواردات 60% من الناتج المحلي الإجمالي للعام 2012 ، في حين شكلت الصادرات 16% من الناتج المحلي الإجمالي لنفس العام علما أن 90% من الصادرات و 80% من الواردات مع الجانب الإسرائيلي، مما عمق عجز الموازنة والميزان التجاري. بل استطاعت إسرائيل بالحصار والعدوان أن تجعل المساعدات تركز على الإغاثة والاحتياجات وليس على التنمية ومقاومة الهيمنة واستجاب البنك الدولي والمانحين لذلك حيث تم توجيه الاقتصاد ليصبح تابعا معتمدا على المساعدات الاغاثية أو تمويل عجز الموازنة بعيدا عن أي توجهات تنموية.
وبالرغم من انجازات السلطة في مجال بناء مؤسسات الحكم الاقتصادي ، وإعادة تأهيل مرافق البنية التحتية وإصدار التشريعات الناظمة لحياة المواطنين وتنشيط الحركة التجارية والاستثمارية إلا أن تكلفة ذلك كان مرتفعا ، لأنها تمت في ظل استمرار قيود الاحتلال وسياساته التعسفية ، وفي ظل غياب رؤية وبرنامج تنموي شامل تبدأ به السلطة في إعادة الإعمار وهيكلية الاقتصاد الفلسطيني.
فالتشوهات الموروثة عن الاحتلال والمستجدة بعد قيام السلطة أثرت سلبا على هيكل الموازنة العامة ، واعتمادها الكبير على المساعدات الدولية والإيرادات الجمركية المحصلة من قبل إسرائيل ، وبالمقابل ضعفت مساهمة القاعدة الضريبية للجباية المحلية وتغيرت تركيبة الاقتصاد من الصناعة والزراعة إلى الخدمات، حيث بلغت مساهمة قطاع الخدمات 56.2% بالمتوسط للفترة من 1995 إلى 2012 في حين لم تتعد مساهمة الزراعة 7.5% والصناعة 15.5% والإنشاءات 7.4% خلال نفس الفترة، وأصبح الاقتصاد منكشفا على الصدمات الخارجية .
أما نسبة النمو فقد تراجعت في الضفة الغربية من 10.4% إلى 5.6% بين عامي 2011 ، 2012 في حين انخفضت في قطاع غزة من 17.6% إلى 6.6% لنفس الفترة، ويشار أن نسبة النمو في قطاع غزة عام 2011 هي الأعلى على الإطلاق منذ إنشاء السلطة الفلسطينية والتي جاءت نتيجة بدء إعادة إعمار قطاع غزة وتخفيض القيود الإسرائيلية على دخول مواد البناء وخصوصا للمشاريع الممولة من الدول المانحة.
ولكن إذا كانت مشكلة الاقتصاد الفلسطيني الأساسية لا تنبع من نصوص أو تطبيقات باريس فقط وإنما مرجعياته السياسية والأمنية التي جاءت في اتفاق أوسلو، فهذا الاتفاق حتى لو خلا من العيوب والتعثرات الفنية لن يصلح كأساس لإعادة بناء وتطوير الاقتصاد الفلسطيني على طريق التنمية المستدامة في ظل الترتيبات الأمنية والسياسية القائمة. كما من السذاجة الافتراض بأن إسرائيل ستسمح للاقتصاد الفلسطيني أن ينمو ويتطور بشكل طبيعي ، وبما يمكن الشعب الفلسطيني من الانعتاق من التبعية لإسرائيل ، ويحرره من الابتزاز والضغط السياسي، فالاقتصاد من وجهة نظر إسرائيل هو حد ساحات المواجهة ، وعلى هذا الأساس تتعامل معه، إلى جانب عدم صحة افتراض توفر حسن النوايا اتجاه عملية عادله .
كل ما سبق يقودنا إلى أن تغير مسار الاقتصاد من حالة التبعية والانكشاف والهشاشة إلى حالة من التمكين والانعتاق والتوازن يتطلب تغيير جوهري في قواعد وأسس العلاقات السياسية والأمنية الراهنة، فمسار الاقتصاد يتبع مسار السياسة في الحالة الفلسطينية وليس العكس.
كما أن أي جهود أو مبادرة لتطوير الاقتصاد الفلسطيني في إطار الوضع السياسي والأمني القائم لن يتوفر لها فرص النجاح وحتى لو نجحت لن تساهم في الوصول إلى حل عادل وشامل لصراع تاريخي ومعقد فهدف الفلسطينيين هو في النهاية الاستقلال والتحرر من الاحتلال وليس الرفاهية .
وبالتالي لم تتمكن السلطة من صياغة وتنفيذ رؤية واضحة للخلاص من هذا الواقع ولم تتمكن من لعب دور الرافعة التنموية بسبب فقدانها السيطرة على أدوات السياسات الاقتصادية (المالية، النقدية والتجارية) وعلى معابرها ومواردها الطبيعية ، فقد ولدت منقوصة السيادة ،ولم تستطع الانعتاق من حالة التبعية والاعتماد على مصادر التمويل الخارجية وضيق هامش السياسة الاقتصادية المتاح لها وبالتالي ثبت الاتفاق التشوهات الهيكلية في الاقتصاد الفلسطيني المتراكمة منذ عام 1967، وبذلك بقيت معظم أدوات السياسات الاقتصادية والموارد الطبيعية في أيدي الإسرائيليين وتركزت جهود الفلسطينيين في التعاطي والتعايش مع نتائج فقدان السيطرة على هذه الأدوات ضمن منظومة الواقع ألاحتلالي .
المطلوب لتجاوز الدعوات لتبني فكرة أن التنمية المستدامة تحت الاحتلال غير ممكنة (لا تنمية في وجود احتلال) يكون عبر اعتماد نهج ونسق تنموي بديل قادر على تحقيق الاعتماد على الذات ومواجهة الاحتلال وتحقيق العدالة الاجتماعية بهدف التحرير وليس التعايش مع الاحتلال، نهج يقوم على زيادة الإيرادات المحلية والحد من ظاهرتي التهرب والتسرب الضريبي والتقشف في النفقات العامة وتقليص الاعتماد على المساعدات الخارجية لصد الضغوط والابتزازات الدولية والإقليمية ،وخفض الضرائب على السلع والمواد الأساسية لوقف استفحال الغلاء، وزيادة الضرائب المباشرة على الدخل والأرباح من خلال نظام الضريبة التصاعدية.
كذلك يجب على السلطة تصويب أولويات الموازنة لصالح تحسين الخدمات الأساسية ودعم الزراعة والإنتاج الوطني، وإقرار حد أدنى وحد أعلى للأجور، واعتماد قانون الضمان الاجتماعي والصحي الشامل، وتقليص الاعتماد على المساعدات الخارجية في تمويل العجز الجاري للموازنة العامة مما يشكل خطوة لتصويب السياسة الاقتصادية والمالية المعتمدة عبر التراجع التدريجي للمساعدات المقدمة من الولايات المتحدة الأمريكية والتي تستخدم وسيلة ضغط وابتزاز للجانب الفلسطيني ومحاولة حث الدول العربية على الإيفاء بالتزاماتها تجاه القضية الفلسطينية.